الوجع الخامس
لم تتحرك من موضعها لفترة لا تعلم أن كانت طالت ام قصرت لكن كل ما تدركه أنها فقدت الإحساس بالزمن فقد توقف عند اللحظة التي نطق بها تلك الكلمة التي مزقت ميثاقهما الغليظ..
تنبهت لبكاء صغيرها فنهضت في تثاقل مرير نحوه وكعادتها تبثه اوجاعها على هيئة احضان مشبعة بالحاجة إلى حنان مفتقد، بكت وبكى صغيرها بين ذراعيها متململا، حاولت تهدئته قدر استطاعتها واطعامه حتى عاد لنعاسه من جديد، وضعته بفراشه واندفعت تبحث عن هاتفها وما أن وجدته حتى بحثت عن رقمه، رقم صديق كمال، سالم، تذكر أن كمال قد اتصل بها منذ عدة أيام على هاتف صديقه هذا عندما انتهى شحن بطارية هاتفه..
وجدته اخيرا فألتقطت نفس عميق وداست زر الإتصال، لحظات ورد سالم على الجانب الآخر في لهفة هاتفا: – اهلا يا مدام نجوى، خير!؟
تعجبت من أن يكون على علم برقم هاتفها، لكنها تجاهلت الأمر هاتفة بصوت حاولت أن تبثه بعض الثبات الواهن: – استاذ سالم، انا عارفة انك صديق مقرب من كمال، واحنا حصل بينا مشكلة كبيرة وهو..
توقفت تلتقط أنفاسها وتبتلع غصة بحلقها حتى تستطيع نطق تلك الكلمة التي تثير فيها مواجع شتى وهمست اخيرا: – وهو طلقني..
هتف سالم في صدمة: – طلقك!؟، ليه كده بس!؟، لا حول ولا قوة الا بالله..
قال ما قال لكنها لم تستشعر ولو قدر ضئيل من التعاطف أو الحزن بصوته، لكنها صمتت لبرهة مستطردة: – اكيد حضرتك عارف أنه عاوز يتجوز، قوله إن نجوى معندهاش مانع، ليه يطلقني، خليني على زمته، حتى ولو كان مليش خاطر عنده، يبقي عشان خاطر ابنه، يتربى ليه بعيد عن بباه!؟.
لم تستطع أن تتماسك أكثر من هذا فانفجرت باكية: – حاول تقنعه يا استاذ سالم، عشان خاطر البيت ده ميتهدش، يروح يتجوز، بس ميطلقنيش، انا مش هقدر اتحمل اني..
ولم تستطع أن تسترسل في سرد مواجعها على ذاك الغريب الذي لم تره الا عدة مرات كانت سريعة وتحت ضغط من كمال نفسه..
هتف سالم محاولا تهدئتها: – متقلقيش يا مدام نجوى، أن شاء الله كله هايبقى تمام، اهدي بس مفيش حاجة تستاهل دموعك الغالية دي، ولا حد يستاهل زعلك، وكله خير..
همست نجوى في هدوء: – متشكرة جدا يا استاذ سالم، ربنا يخليك، سلام عليكم..
هتف سالم: – وعليكم السلام..
تركت هاتفها جانبا لا تدرك أن كان ما فعلته هذا صحيح ام تصرف خاطئ ستندم عليه يوما، كل ما كان ببالها اللحظة أن تنقذ زواجها الذي ينهار بالفعل واتصالها بسالم هذا هو القشة التي يتعلق بها الغريق بعد أن ثقبت مركبه وطاح بها موج الخلاف.
بكت من جديد حتي جفت دموعها ولم تستشعر الا ويد تهزها في عنف فيبدو أنها غفت رغما عنها..
انتفضت متطلعة لكمال الذي كان يقف على رأسها في تحفز متطلعا إليها في حنق حتى هتف اخيرا: – هي حصلت تروحي تشتكيني لسالم!؟، احلو دلوقت سالم وبتكلميه عشان يقنعيني اردك!؟.
هتفت نجوى بصوت متحشرج مهموم النبرة: – انا عارفة أن سرك كله معاه واكيد عارف موضوع جوازك، انا..
هتف بها كمال في غضب: – أنتِ ايه!؟، رايحة تسوقي عليا اكتر صاحب كنتِ بتحاولي تبعديني عنه وتتهميه أن نظراته مش مريحة وبيبص لك بشكل مش محترم، انا نفسي افهم جالك منين الخيال المريض ده.!؟، انت مين عشان يبص لك اصلا، أنتِ مش شايفة انتِ شكلك عامل ازاي!؟، بعد أقل من تلات سنين جواز بقى شكلك مبهدل، تخنتي يجي عشرين كيلو وبقى كل همك الأكل وابنك وبس، لا هدمة نضيفة بتلبسي ولا بتهتمي بنفسك، قال بيبص عليا ونظراته معرفش مالها، ليه عمي..!؟، انتِ لو فاكرة أن فيه راجل هيبص لك بشكلك ده يبقى انت لازم تتعالجي، فوقي، ده انا ليا الجنة إني استحملتك السنتين دول..
دموع فقط كانت اجابتها على كل تلك الإهانات الموجهة لها كخناجر مسمومة مصوبة لقلبها..
هم بالرحيل لتصرخ به منتفضة تقف بطريقه هاتفة في توسل: – رايح فين!؟، متسبنيش يا كمال، لو سبتني هموت، انا عارفة أن عندك حق فكل اللي قلته، وانك نبهتني كتير وانا مسمعتش، بس اوعدك هتغير والله، بس متسبنيش..
هتف بها غيرعابئ بانكسارها: – معدش ينفع، انا هتجوز قريب، ومعنديش القدرة على فتح بيتين، يا هنا يا هناك، وانا اخترت راحتي، وراحتي معاها..
اندفع تاركا إياها تتجرع مرار الخزي والمهانة علقما يتسرب الي روحها التي تنتفض في ارتجاف من صقيع ايام فقد قادمة…
كانت في سبيلها للخارج تتمشى قليلا بالمنطقة بعد أن شعرت بالاختناق وحيدة، مدت كفها لمقبض الباب تفتحه لكنها انتفضت تاركة إياه في اضطراب ما أن تناهى لمسامعها صوت صرخات مكتومة قادمة من الخارج، تسمرت موضعها واقتربت من باب الشقة ترهف السمع لتتأكد أنها لا تتوهم إلا أن الصرخات علت وتيرتها قليلا..
قررت في لحظة جرأة غير معتادة أن تفتح بابها لاستطلاع ما يحدث فإذا بشابة صغيرة تتوجع وشاب يساعدها حتى تتخطى عتبة شقتهما، يبدو أن المراة على وشك الوضع..
انتابت المرأة نوبة ألم شديدة جعلت صرختها تعلو مترنحة تكاد تسقط أرضا وزوجها قد غفل عنها للحظة ليغلق باب الشقة خلفهما، كان مضطربا فيبدو أنه يمر بهذا الموقف للمرة الأولي ما جعل إحسان تندفع لتلحق بالمرأة الموجوعة قبل سقوطها أرضا وايذاء نفسها وجنينها..
هتفت به إحسان متسائلة: – انت معاك عربية!؟.
هتف الشاب مضطربا: – لا، هجيب تاكسي بس اسندها لحد تحت..
أكدت إحسان: – طب بسرعة وانا هفضل معاها واحاول انزل بيها عشان نوفر وقت، بسرعة..
توتر الشاب بشكل أكبر وأخذ يتلفت حوله واخيرا اندفع في اتجاه الدرج لينفذ المطلوب الا انه كاد يصطدم بشخص ما يصعد الدرج مسرعا بالمقابل..
هتف الرجل الصاعد في مرح: – خبر ايه يا حاتم!؟، هي نرمين بتجري وراك بسكينة المطبخ ولا ايه!؟.
هتف حاتم مضطربا وهو يهم بالإندفاع على الدرج هابطا: – نرمين بتولد، نرمين بتولد..
أوقفه الرجل هاتفا: – طب وانت رايح فين كده وسايبها؟!، تعالوا بسرعة اوصلكم المستشفى بعربيتي..
تنبه حاتم في انشراح: – ربنا يخليك، ده انا نسيت أن حضرتك معاك عربية..
عاد كلاهما لمساعدة نرمين على نزول الدرج حتى العربة التي سبقهم إليها الرجل ليحضرها قبالة بوابة البناية مباشرة..
أصرت إحسان على صحبتهم مغلقة باب شقتها خلفها مندفعين للمشفى..
كان حاتم يقف مضطربا وقد غلبه توتره فأصبح يجئ ويروح بطول الردهة بينما جلس كل من إحسان والرجل الذي تطوع مشكورا بايصالهم..
هتف الرجل سائلا إحسان: – حضرتك مش شبه نرمين خاالص، واضح انها شبه بباها..
هتف حاتم وكان قد اقترب من موضع جلوسهما: – دي مش ماما نرمين، دي..
تنبه حاتم أنه حتى اللحظة لا يعلم من تكون هذه المرأة التي تطوعت للمجئ معهم فهتف متسائلا في تعجب: – ايوه صحيح!؟ هو حضرتك مين!؟
ابتسمت إحسان معرفة: – انا إحسان الدمنهوري، صاحبة الشقة اللي جنبك..
هتف الرجل الجالس جوارها في تعجب: – معقول، انتِ بجد إحسان!؟، انتِ مش فكراني..!؟.
استدرات قليلا متطلعة إليه في حياء هاتفة: – انا اسفة، مش واخدة بالي، انا مكنتش باجي بيت بابا بقالي سنين طويلة..
فعلا لم تكن تخطو عتباته إلا فيما ندر بعد أن نشب ذاك الخلاف بين زوجها وأخيها على بعض الأموال التي كان قد استدانها الأخير من زوجها من أجل التحضير لهجرته مما دفع توفيق ليصدر فرمانا بحرمانها من زيارة بيت أبيها، كان قرارا قاسيا لكنها كعادتها لم تعارضه، لقد نشأت أن على الزوجة السمع والطاعة واتباع أوامر زوجها مهما كانت..
ابتسم الرجل معرفا: – طب بما انك مش فكراني، خليني اعرفك على نفسي من اول وجديد، انا القبطان عبدالغني السعدي، افتكرتيني كده!؟
ساد الصمت قليلا لتهز رأسها نفيا ليقهقه عبدالغني مؤكدا: – ولا هتفتكريني، لأني سكنت في الشقة بعد جوازك ومكنتش بشوفك بتيجي فعلا وانا كمان خدني السفر ومكنتش بنزل مصر كتير..
قهقه حاتم هاتفا: – انت مش هتبطل هزارك ده بقى يا غنوة!؟، والله ده انا صدقتك..
قهقه عبدالغني ولم يعقب بينما تململت هي موضعها غير شاعرة بالرضا على تلاعبه بها بهذا الشكل وكادت أن تنهض مغادرة إلا أن صوت انفراج باب غرفة العمليات عن محيا الطبيب جعلها تتوجه نحوه بصحبة حاتم الذي انتفض مندفعا يطمئن على زوجته، ليهلل الجميع في سعادة ما أن أخبرهم الطبيب أن نرمين بخير والطفلة الجميلة بأحسن حال..
كانت تلك العربة تقف على مقربة من باب المصنع المخصص لخروج العمال وما أن خرجت صفية تسير في هرولة حتى تلحق بولدها الذي كان لايزل يتعافى من مرضه الأخير تاركة إياه مع امها التي ما عاد كبر سنها يساعدها لتسيطر عليه واخته الأصغر سنا حتى لحقت بها تلك السيارة..
دخلت صفية الحارة وما أن اقتربت من مدخل بيتها حتى ترجلت من السيارة فتاة صغيرة تبدو في السابعة أو الثامنة عشر من عمرها لتلحق بصفية تقطع عليها الطريق صارخة في قوة: – اوعي تفتكري أن واحدة زيك ممكن تيجي فيوم وتاخد مكان امي!؟، انت اخرك مكان زي ده تعيشي فيه، لو كنتِ فاكرة انك هتقدري تضحكي ع الراجل بكلمتين يبقى بتحلمي، نجوم السما اقرب لك من ابويا..
هتفت بها صفية في غضب هادر ما أن تمالكت نفسها واستوعبت الصدمة أمام شلال الاتهامات الحقيرة تلك: – أنتِ مين من اساسه!؟، وابوكِ مين ده اللي هخده من امك!؟، أنتِ جاية تتبلي عليا وتحدفي عليا مصايبك!؟.
هتفت الفتاة مؤكدة: – انا مبحدفش بلايا على حد، انا هناء بت حماد بيه صاحب المصنع اللي بتشتغلي فيه، ها اقول تاني ولا كفاية!؟.
هتفت صفية في ثورة: – أنتِ بت حماد بيه!؟، وانا ايه اللي وصلني لراجل كبارة زي حماد بيه.!؟، مين اللي دخل فدماغك أن فيوم حماد بيه فكر فيا أو انا فكرت فيه..!؟، أيش جاب لجاب يا هانم..
أكدت هناء في غضب: – متعمليش عليا الشوية دول، انا سمعته بيكلم امي وهي قالت له اتجوزها، والكلام كان عليكِ..
همت صفية بالكلام إلا أن ظهور مسعد وهتافه المتعحب اخرسها: – تتجوز مين يا آنسة!؟، صفية مراتي، واضح أن العنوان غلط..
هتفت صفية مضطرة لتنهي هذا الجدل العجيب وتلك الفضيحة التي جمعت حولها سكان الحارة كما يجتمع النمل على قطعة السكر: – ايوه، اه، زي ما قالك كده، يبقى ازاي هتجوز حماد بيه، بقى ده يينفع!؟.
تطلعت هناء لهما في شك واخيرا هتفت في خيلاء وبنبرة يملؤها الكبر: – انا برضو مكنتش مصدقة أن بابا ينزل للمستوى ده..
وتطلعت حولها في نظرة تحمل اذدراء قبل أن تسقطها على صفية التي شعرت بمهانة مزقت دواخلها ولولا جميل حماد بيه الذي طوق به رقبتها مرة بعد أخرى لكانت استطاعت الرد على ابنته المتغطرسة تلك بالرد اللائق لأمثالها..
ساد الصمت لتندفع هناء حتى عربتها مغادرة في سرعة مخلفة ورائها غيمة من غبار ودموع صفية التي سالت على وجنتيها وهي تندفع لداخل بيتها تكاد تنكفئ وهي تصعد درجات السلم المتأكلة لا ترى طريقها من غيوم دموع المذلة التي تغشى ناظرها عن رؤية دربها..
دخلت غرفة نومها تبحث عن حقيبة يدها التي تركتها بموضع ما لا تذكره، تناولتها ما أن وقع ناظرها عليها تبحث فيها عن كيس نقودها..
فتحته مخرجة كل ما تملك من مال جاءت به من بيتها أو ما كان يوما بيتها، فردت جنيهاتها القليلة أمامها على صفحة الفراش لتجد أنها لا تكفي حاجتها، لم تكن يوما ممن يحمل للنقود هما أو يفكر أن للنقود قيمة عالية لهذه الدرجة إلا اللحظة، مجرد أن تستشعر أن الأمان أصبح بالنسبة لك ينحصر في وجود بضع جنيهات بكيس نقودك لشئ مخزي، لم يعد لمصطلح الأمان مكان بحياتها من الأساس، أصبحت تقف وحيدة بمهب ريح المهانة والخزي، مطلقة على مشارف الخمسين من عمرها، لا تملك عائلا وليس لديها مدخور من مال يكون سندا لها على الأيام وتقلباتها الغير متوقعة..
قلبت جنيهاتها القليلة بين كفيها لا تعلم فيما يمكنها استغلالهم، كانت تود لو كان باستطاعتها شراء بعض المستلزمات التي تساعدها على صنع بعض من حساء ودجاجة لنيرمين ما أن تعود من المشفى، اليوم أو ربما غدا، فهي على قدر ما سمعت من حاتم زوجها أنها يتيمة الأم وأبوها رجل طاعن بالسن لا يقو على المجئ لمباركة حفيدته..
حملت جنيهاتها وقررت أن تتصرف كيفما اتفق، فقد شعرت رغم ذلك ببعض الحرية، أجبرت نفسها على النظر لنصف الكوب الممتلئ، فتوفيق لم يكن يوما بالشخص الكريم معها، لم يكن يترك لها حرية التصرف بأية أموال، لم تمسك جنيها واحدا يمكنها التصرف به كما يحلو لها، كان هو المسؤول عن جلب كل ما يخص المنزل من أطعمة ومشتريات غذائية وهي مجرد منفذ لرغباته فيما يجب طهوه، كانت بارعة في ذلك والكل يشهد أن طعامها يملك حسا ونكهة لا تنافسها فيها أي من كانت..
وجدت نفسها داخل تلك البقالة الحديثة التي كانت قديما محلا صغيرا لا يبيع الا بعض من جبن وزيتون وصابون..
دخلت تنتقي ما اعتقدت أن ما تملكه من مال يفيه وزيادة، لكن ما وقفت أمام البائع تسأله اسعار ما أشترت حتى تفاجأت أنها تجاوزت الجنيهات التي بحوزتها بمراحل، تنحنحت في حرج هامسة تحاول إخراج نفسها من موقف لا تحسد عليه: – معلش، شكلي نسيت الفلوس في الشنطة التانية، ممكن تشيل بعض الحاجات بحيث تكفي المبلغ ده..
هم البائع بتنفيذ ما تطلب إلا أن صوتا أمرا لا يخلو من نبرة مرحة هتف ينهاه: – متشلش حاجة يا بني، حط للمدام كل طلباتها في كيس محترم وطلعه على فوق، الهانم تبقى جارتي، والحساب عندي..
استدرات إحسان في ضيق تواجه ذاك الذي يغدق عليها بكرم لا رغبة لها به: – حساب مين اللي عندك!؟، انا مش هاخد اي حاجة انا مدفعتش تمنها، متشكرة قوي على كرمك..
واعادت ناظريها للبائع امرة إياه بتنفيذ ما طلبته هي ليطيع مسلما إياها كيس مشترياتها لتهرول مندفعة من البقالة حتى شقتها كأنما تطاردها الأرواح..
ما أن وصلت لباب شقتها حتى وجدت عامر ولدها يقف بالباب حاملا العديد من الأكياس، اندفعت تفتح الباب في سعادة لمرأه..
ضمها عامر إليه ما أن ترك ما كان يحمل هامسا في أسى: – عاملة ايه يا ماما!؟، معلش اتأخرت عليكِ، بس محبتش ادخل عليكِ وأيدي فاضية، استنيت القبض وجيت..
تطلعت إحسان لأكياس الأغراض هاتفة في اشفاق: – ليه كده تكلف نفسك يا عامر!؟، مين هياكل كل ده!؟، وبعدين كفاية الحمل اللي على كتافك، بيتك وديونك اللي بتسددها..
لثم عامر جبينها هاتفا في مرح: – ميجيش من بعد خيرك يا امي، فاكرة لما بعتي سلسلتك اللي كانت عزيزة عليك والحاجة الوحيدة اللي كانت بقيالك من ريحة ستي عشان تساعديني اسدد شوية من اللي عليا بعد ما بابا رفض يساعدني برغم أنه يقدر، وغيرها كتير، دي اقل حاجة والله..
هتفت إحسان مقترحة: – ما تيجي انت ومراتك وبناتك تعيشوا معايا، البيت زي ما انت شايف واسع و..
هتف عامر مقاطعا: – مش هينفع يا ماما، دنيتنا كلها بقت هناك، مدارس البنات وشغل مراتي وكمان شغلي، هنا بعيد قوي يا ماما، وكمان مستوى المكان مش زي هناك، والبنات..
قاطعته إحسان في ضيق مكبوت: – خلاص فهمت يا حبيبى، ربنا يصلح لك حالك..
استأذن عامر ليغادر فهتفت به: – انت لسه قعدت.!؟، خليك معايا شوية..
هتف عامر متحرجا: – معلش يا ماما يا دوب اروح، هجيلك تاني، خلي بالك على نفسك ولو احتجتي اي حاجة قوليلي..
هزت رأسها دون أن تنبس بحرف فما عساها أن تقول، عادت للأكياس تتلهى بفتحها لتجد بعض من نقود متروكة جانبا..
تطلعت لباب الشقة حيث غادر ولدها منذ قليل ثم عاودت النظر للنقود من جديد، كم هو قاس شعور المذلة الذي تتعرض له مرة تلو الأخرى..
اليوم في البقالة وحرجها من قلة المال وتدخل جارها والأن وهي ترى ولدها الذي كانت دوما ما تمتد له يدها بالعطاء فإذا بها اللحظة مغلولة لا قبل لها على بسطها، تدحرجت دمعاتها وما من كف تغتالها ولا هناك من يد تربت على كتفها مؤازرة، وحيدة هي تماما كشجرة حكمت عليها اقدارها أن تنبت في وسط صحراء بلا ونيس يصاحبها أو حتى طير يحط عشه على أغصانها..
استفاقت من صدمتها بعد بكاء مرير، نفضت عنها عجزها بعد أن أخذ زوجها جوالها ونزع أسلاك الهاتف كي يتركها وحيدة لا تستطيع طلب المساعدة حتى يعود إليها سجانها ليفتح زنزانتها..
هرولت تدفع النافذة الزجاجية المطلة على نافذة غرفة نوم شيرين وبدأت في الهتاف بصوت لا يكاد يسمع، دفعت ببعض الأشياء حتى ترتطم بالخصاص لكن لا فائدة، دخلت لبرهة وعادت بعصا خشبية كانت يوما يد لمكنسة يدوية طرقت بها على النافذة عدة مرات لتنتبه شيرين وينفرج الشباك اخيرا عن محياها لتتتفس أمل الصعداء هاتفة في عجالة: – هاتي المفتاح اللي كنت سيباه معاكِ وتعالي افتحيلي بسرعة..
تطلعت شيرين إليها في تعجب: – افتح لك!؟، هو ايه اللي حصل بالظبط!؟.
هتفت أمل في تعجل: – مش وقته، تعالي افتحيلي وهحكيلك كل حاجة، بسرعة..
اندفعت شيرين تفتح الباب لتندفع أمل حاملة حقيبتها بيد وبالأخري تجذب بها سليم ولدها..
هتفت شيرين في صدمة: – على فين!؟، وايه اللي حصل خلاكِ عايزة تمشي!؟.
هتفت أمل وهي تهرول هابطة الدرج: – حاجات كتير حصلت يا شيرين بس انا اللي كنت بتعامى، سلام، واول ما اوصل عند بابا هكلمك واطمنك ع الأخبار..
ودعتها شيرين عائدة تغلق باب شقتها محتفظة بالمفتاح في حوزتها حتى تعود صاحبته، لكن كيف لمن خرج من الجحيم هاربا أن يعود بأختياره يوما!؟.
دفعت بنفسها وطفلها بأقرب سيارة أجرة وما أن سارت مبتعدة حتى بدأت تتنفس هواء الحرية..
أمسكت دموعها ببسالة وتطلعت لولدها جوارها واكدت لنفسها أنها لا تريد الا بعض من راحة لروحها المنهكة وبعض الشفاء لجسدها العليل فهل هذا بالشئ الصعب المنال!؟.
وقفت أمام باب شقة ابيها وتنفست في عمق تحاول أن تبدو قوية ومسيطرة على مقاليد الأمور لكن ما أن انفرج الباب عن محيا ابيها حتى نسيت كل ما كانت تدعيه وسقط قناع الصلابة الهش لتندفع تلق بنفسها بين ذراعيه باكية نفسها وقلبها وسنوات عمرها..
المهانة، اي وجيعة تلك!؟، كيف يمكن تعريفها أو وصف حالتها!؟، ماذا يمكن ان نقول عن تأثيرها على نفوسنا، وقهرها لأرواحنا!؟.
انها تعثر لخطوات العشم الواثقة لتزل أقدامها بعد ثبوت مغروسة في وحل من الخزي والمذلة لتدرك تماما أن عشمك لم يكن بموضعه وان المهانة هي ذاك الثمن القاسي الذي سيدفعه قلبك الذي وضع ثقته فيمن لا يستحق، ويا له من شعور؟!.
جذبت عن أذنيها سماعات الهاتف التي كانت تضعها حتى تستطيع التركيز في الكتابة وأبوها يجلس أمام التلفاز يشاهد مبارة لكرة القدم والصرخات تأتيها من هنا وهناك..
تناهى لمسامعها صوت ندائه هاتفا: – فين العشا، انا جعت يا بشر..
أيقنت أن المبارة قد انتهت فابتسمت هاتفة في مرح: – حالا يا بابا، دقيقتين والأكل يكون جاهز..
ضغطت على زر الحفظ لكل ما كتبت واندفعت في اتجاه المطبخ تحضر عشاء خفيفا كما أمرها طبيب ابيها..
دندنت في طرب وهي تقلب أرغفة الخبز على أعين الموقد لتكسبها بعض الدفء وتضع بعض من جبن في أحد الصحون: –
كنت بخلص لك في حبي من كل قلبي..
وانت بتخون الوداد من كل قلبك..
بعت ودي، بعت حبي، بعت قلبي..